فصل: تفسير الآيات (37- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 24):

{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)}
ذكر الله تعالى عنهم قولهم: {تلك إذاً كرة خاسرة} وذلك أنهم لتكذيبهم بالبعث، وإنكارهم، قالوا: لو كان هذا حقاً، لكانت كرتنا ورجعتنا خاسرة وذلك لهم إذ هي النار، وقال الحسن: {خاسرة} معناه: كاذبة أي ليست بكائنة، وروي أن بعض صناديد مكة قال ذلك، ثم أخبر الله تعالى عن حال القيامة، فقال {فإنما هي زجرة واحدة}، أي نفخة في الصور فإذا الناس قد نشروا وصاروا أحياء على وجه الأرض، وفي قراءة عبد الله {فإنما هي رقة واحدة} و{الساهرة}: وجه الأرض، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [الوافر]
وفيها لحم ساهرة وبحر ** وما فاهوا به فلهم مقيم

وقال وهب بن منبه: {الساهرة}: جبل بالشام يمده الله لحشر الناس يوم القيامة كيف شاء، وقال أبو العالية وسفيان: {الساهرة}: أرض قريبة من بيت المقدس، وقال قتادة: {الساهرة}: جهنم، لأنه لا نوم لمن فيها وقال ابن عباس: {الساهرة}: أرض مكة، وقال الزهري: {الساهرة}: الأرض كلها، ثم وقف تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على جهة جمع النفس لتلقي الحديث، فقال: {هل أتاك حديث موسى} الآية، والوادي المقدس: واد بالشام، قال منذر بن سعيد: هو بين المدينة ومصر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والأعمش وابن إسحاق: {طِوىً} بكسر الطاء منونة، ورويت عن عاصم، وقرأ الجمهور: {طُوى} بضمها، وأجرى بعض القراء {طوى} وترك إجراءه ابن كثير وأبو عمرو ونافع وجماعة، وقد تقدم شرح اللفظة في سورة طه، وقوله تعالى: {اذهب إلى فرعون} تفسير النداء الذي ناداه به، ويحتمل أن يكون المعنى قال: {اذهب} وفي هذه الألفاظ استدعاء حسن، وذلك أنه أمر أن يقول به: {هل لك أن تزكى}، وهذا قول جواب كل عاقل عنده نعم أريد أن أتزكى، والتزكي هو التطهر من النقائص، والتلبس بالفضائل، وفسر بعضهم: {تزكى} بتسلم وفسرها بقول: لا إله إلا الله، وهذا تخصيص وما ذكرناه يعم جميع هذا، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بخلاف عنه: {تزّكى} بشد الزاي، وقرأ الباقون {تزَكى} بتخفيف الزاي، ثم أمر موسى أن يفسر له التزكي الذي دعاه إليه بقوله: {وأهديك إلى ربك فتخشى}، والعلم تابع للهدى والخشية تابعة للعلم، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، و{الآية الكبرى}: العصا واليد، قاله مجاهد وغيره، وهما نصب موسى للتحدي فوقعت المعارضة في الواحدة وانقلب فيها فريق الباطل، وقال بعض المفسرين: {أدبر يسعى} حقيقة قام من موضعه مولياً فاراً بنفسه عن مجالسة موسى عليه السلام، وقال مجاهد: {أدبر} كناية عن إعراضه عن الإيمان، و{يسعى} معناه: يتحذم حل أمر موسى عليه السلام والرد في وجه شرعه، وقوله: {فحشر} معناه: جمع أهل مملكته ثم ناداهم بقوله: {أنا ربكم الأعلى} وروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى: فنادى فحشر، وقوله: {أنا ربكم الأعلى} نهاية في المخرقة ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم.

.تفسير الآيات (25- 36):

{فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)}
{نكال} منصور على المصدر، قال قوم {الآخرة} قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، و{الأولى} قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24]، وروي أنه مكث بعد قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] أربعين سنة، وقيل هذه المدة بين الكلمتين، وقال ابن عباس: {الأولى} قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، و{الآخرة} قوله: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24] وقال ابن زيد: {الأولى} الدنيا، و{الآخرة}: الدار الآخرة، أي أخذه الله بعذاب جهنم وبالغرق في الدنيا، وقال مجاهد: عبارة عن أول معاصيه وكفره وآخرها أي نكل بالجميع، و{نكال} نصب على المصدر، والعامل فيه على رأي سيبويه أخذ لأنه في معناه، وعلى رأي أبي العباس المبرد فعل مضمر من لفظ {نكال}، ثم وقف تعالى على موضع العبرة بحال فرعون وتعذيبه، وفي الكلام وعيد للكفار المخاطبين برسالة محمد عليه السلام، ثم وقفهم مخاطبة منه تعالى للعالم والمقصد الكفار، ويحتمل أن يكون المعنى: قل لهم يا محمد {أأنتم أشد خلقاً} الآية، وفي هذه الآية دليل على أن بعث الأجساد من القبور لا يتعذر على قدرة الله تعالى، والسمك: الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها، وقوله تعالى: {فسواها} يحتمل أن يريد جعلها ملساء مستوية ليس فيها مرتفع ومنخفض، ويحتمل أن يكون عبارة عن إتقان خلقها ولا يقصد معنى إملاس سطحها والله تعالى أعلم كيف هي {وأغطش} معناه: أظلم، والأغطش الأعمى ومنه قول الشاعر [الأعشى]: [المتقارب]
نحرت لهم موهناً ناقتي ** وليلُهم مدلهمٌّ عطش

ونسب الليل والضحى إليها من حيث هما ظاهران منها وفيها، وقوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} متوجه على أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها، ثم استوى إلى السماء وهي دخان فخلقها وبناها، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقرأ مجاهد: و{الأرض مع ذلك}، وقال قوم: إن {بعد ذلك} معناه مع ذلك، والذي قلناه تترتب عليه آيات القرآن كلها، ونسب الماء والمرعى إلى الأرض حيث هما يظهران فيها، ودحو الأرض بشطها ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [الكامل]
دار دحاها ثم أسكننا بها ** وأقام بالأخرى التي هي أمجد

وقرأ الجمهور: {والأرضَ} نصباً، وقرأ الحسن وعيسى، و{الأرضُ} بالرفع، وقرأ الجمهور: و{الجبالَ} نصباً، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: {والجبالُ} رفعاً، و{أرساها} معناه: أثبتها، وجمع هذه النعم إذا تدبرت فهي متاع للناس، والأنعام يتمتعون فيها وبها، وقرأ الجمهور: {متاعاً} بالنصب، وقرأ ابن أبي عبلة: {متاعٌ} بالرفع، و{الطامة الكبرى} هي القيامة، قاله ابن عباس والضحاك، وقال الحسن وابن عباس أيضاً: النفخة الثانية، وقوله: {ما سعى} معناه: ما عمل من سائر عمله، ويتذكر ذلك بما يرى جزائه، وقرأ جمهور الناس: {وبُرِّزت} بضم الباء وشد الراء المكسورة، وقرأ عكرمة ومالك بن دينار وعائشة: {وبَرَزت} بفتح الباء والراء، وقرأ جمهور الناس {لمن يرى} بالياء أي لمن يبصر ويحصل، وقرأ عكرمة ومالك بن دينار وعائشة: {لمن ترى} بالتاء أي تراه أنت، فالإشارة إلى كفار مكة أو أشارة إلى الناس، والمقصد كفار مكة، ويحتمل أن يكون المعنى: لمن تراه الجحيم كما قال تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد} [الفرقان: 12] وقرأ ابن مسعود: {لمن رأى} على فعل ماض.

.تفسير الآيات (37- 46):

{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}
{طغى} معناه: تجاوز الحدود التي ينبغي للإنسان أن يقف عندها بأن كفر وآثر الحياة الدنيا على الآخرة لتكذيبه بالآخرة و{المأوى} والمسكن حيث يأوي المرء ويلازم، و{مقام ربه} هو القيامة، وإنما المراد مقامه بين يدي ربه، فأضاف المقام إلى الله عز وجل من حيث بين يديه وفي ذلك تفخيم للمقام وتعظيم لهوله وموقعه من النفوس، قال ابن عباس: المعنى خافه عند المعصية فانتهى عنها، و{الهوى} هو شهوات النفس وما جرى مجراها، وأكثر استعماله إنما هو في غير المحمود، قال سهل التستري: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين، وقال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه، وقال الفضيل: أفضل الأعمال خلاف الهوى، وقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة} الآية نزلت بسبب أن قريشاً كانت تلح في البعث عن وقت الساعة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بها ويتوعدهم بها ويكثر من ذلك، و: {أيان مرساها} معناه: متى ثبوتها ووقت رسوها أي ثبوتها كأنه يسر إلى غاية ما ثم يقف كما تفعل السفينة التي ترسو، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: {إيان} بكسر الألف، ثم قال لنبيه عليه السلام على جهة التوقيف {فيم أنت من ذكراها} أي من ذكر تحديدها ووقتها أي لست من ذلك في شيء {إنما أنت منذر}، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراُ، فلما نزلت هذه الآية انتهى. وقرأ أبو جعفر وعمر بن عبد العزيز وأبو عمرو بخلاف، وابن محيصن والأعرج وطلحة وعيسى: {منذرٌ} بتنوين الراء، وقرأ جمهور القراء: {منذرُ} بإضافة {منذر} إلى {من}، ثم قرب تعالى أمر الساعة بإخباره أن الانسان عن رؤيته إياها لم يلبث إلا عشية يوم أو بكرته، فأضاف الضحى إلى العشية من حيث هما طرفان للنهار، وقد بدأ بذكر أحدهما فأضاف الآخر إليه تجوزاً وإيجازاً.
نجز تفسير سورة {النازعات} والحمد لله كثيراً.

.سورة عبس:

.تفسير الآيات (1- 17):

{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)}
العبوس: تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش، والتولي: هنا الإعراض، و{أن}: مفعول من أجله، وقرأ الحسن {أن جاءه} بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على {تولى} وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز، ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا.
ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة تذكر امرأة، فقالت: إنها القصيرة، فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} أي وما يطلعك على أمره وعقبى حاله، ثم ابتدأ القول: {لعله يزكى} أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه، وأصل {يزكى}: يتزكى، فأدغم التاء في الزاي وكذلك {يذكر}، وقرأ الأعرج. {يذْكُر} بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم، وقرأ جمهور السبعة: {فتنفعُه} بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده والأعرج: {فتنفعَه} بالنصب في جواب التمني، لأن قوله: {أو يذكر} في حكم قوله: {لعله يزكى}، ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله: {أما من استغنى} أي بماله، و: {تصدى} معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ونافع: {تصّدى} بشد الصاد على إدغام التاء، وقرأ الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش: {تصَدى}، بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {تُصَدى}، بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول، أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى محتقراً لشأن الكفار: {وما عليك ألا يزكى} وما يضرك ألا يفلح، فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الأكتراث بهم، ثم قال مبالغاً في العتب: {وأما من جاءك يسعى} أي يمشي، وقيل المعنى: {يسعى} في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك، {وهو يخشى} الله تعالى، {فأنت عنه تلهى} أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، وإما أن المعنى يتداخل، وقرأ الجمهور من القراء: {تَلهى} بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه {تلهى} بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف: {تتلهى} بتاءين، وروي عنه {تَلْهى} بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {تُلْهى} بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «وما استأثر الله به فَالْهَ عنه» وقوله تعالى في هاتين: {وأما من} فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحَمَلَهُ الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، ثم قال: {كلا} يا محمد أي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر {تذكرة} لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل المعنى أن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأنيس له، وقوله تعالى: {فمن شاء ذكره} يتضمن وعداً ووعيداً على نحو قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه ومآباً} [النبأ: 39] وقوله تعالى: {في صحف} يتعلق بقوله: {إنها تذكرة}، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين، واختلف الناس في السفرة، فقال ابن عباس: هم الملائكة لأنهم كتبة يقال: سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضاً: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة: هم القراء وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه: هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعليم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
وما أدع السفارة بين قومي ** وما أسعى بغش إن مشيت

والصحف على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف، وقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} دعاء على اسم الجنس وهم عموم يراد به الخصوص، والمعنى: قتل الإنسان الكافر، ومعنى {قتل} أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد: {قتل} بمعنى لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى: {ما أكفره} يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفاً أي أيّ شيء {أكفره} أي جعله كافراً، وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله» ويروى أنه قال: «ما يخاف أن يرسل عليك كلبه»، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة.